فن

هانيبال لكتر: عندما تشعر الآلهة بالوحدة

مراجعة للمسلسل الذي حقق في 3 مواسم ظاهرة نقل خلالها جونرة القتلة المتسلسلين إلى آفاق مروعة ومغلفة بجمالية يراها كثيرون مثيرة للاشمئزاز والقشعريرة.

future الممثل الدنماركي مادس ميكلسن

الشيطان لا يخضع لمحاكمة أرضية 

«كفانا سماعاً لتبريرات المجتمع، لن تفهموني ولن أفهمكم، أنا أجاوز قدرتكم على ذلك، أنا أجاوز الخير والشر»

لا تُنسب تلك العبارة المُدوية إلى نيتشه في تبشيره المُزلزل بموت الإله على لسان زرادشت، وليست اقتباساً من كتابه الشهير «ما وراء الخير والشر» الذي يُمجد القوة باعتبارها مفهوماً أزلياً يُحرك العالم في ما وراء مفاهيم الخير والشر المزيفة التي نُحاول بسذاجة أن نفسر بها سنة التدافع والصراع في مسيرتنا الإنسانية.

قائل تلك العبارة هو القاتل المُتسلسل «ريتشارد راميريز» الذي لُقب بالمترصد الليلي، مروعاً بتلك السُمعة كاليفورنيا في ثمانينيات القرن الماضي، صرح «ريتشارد» بتلك العبارة وهو في قفص الاتهام يستمع للحكم النهائي عليه بالإعدام بينما يرفع يده المُكبلة بالأصفاد لنرى في راحتها نقش نجمة الشيطان الخُماسية.

كان ريتشارد يرى نفسه باعتباره كائناً فوق أرضي، مزيجاً من الإله والشيطان، ولذلك لا يُمكنه مواجهة محاكمة أرضية إلا بالسُخرية. لأنه لا ينتمي إلى معايير هذا العالم الذي يُحاكمه إنما يُجاوزها.

في عام 1991 قدم المُخرج الأمريكي جوناثان ديم تُحفة «صمت الحملان» التي تتحدث عن هانيبال، قاتل مُتسلسل يأكل ضحاياه، تضطر المُحققة الفيدرالية «كلاريس ستارلينج» إلى الاستعانة بخبرته المخيفة في القبض على قاتل متسلسل آخر طليق.

نجح أنثوني هوبكنز خلال 16 دقيقة وحسب هي مدة ظهوره على شريط الفيلم في خلق شرير سينمائي خالد، على رغم أنه في مُعظم مشاهده كان مُحتجزاً بين أربعة جدران، مُرتدياً حُلة سجن بالية. ومُكبلاً بأصفاده. وفي بعض المشاهد كان فمه مُكبلاً كذلك في إذلال مقصود كما يُعامل البالغون الكلاب المسعورة.

تنبع جاذبية هانيبال لكتر من تناقض تلك الصورة البصرية المُذلة التي قُدم بها، مع أدائه الأنيق، وسط صدأ أصفاده وضيق زنزانته، يقف هانيبال في انتظار كلاريس كما يرى نفسه، مثل إله أنيق، لا يحتاج هانيبال لخلع أصفاده إنما يُجيد بحرية التلاعب بضحاياه و بث الوسواس من محبسه، حد إقناع نزيل بزنزانة مُجاورة بقتل نفسه. وإقناع مُحققة مُتمرسة مثل كلاريس بمواجهة ماضٍ تعود تحت وطأته طفلة مُرتعدة تُطاردها أصوات حملان على مسلخ الذبح.

يقول أنثوني هوبكنز، إن وحشية شخصيته لم يستعرها من قاتل مُتسلسل حقيقي، إنما من صوت الروبوت الآلي في فيلم كوبريك 2001: A Space Odyssey، ليؤكد ذاته كائناً مفارقاً لما هو بشري، يُمكن أسر جسده في زنزانة لكن كينونته باردة لا تؤسر لصالح المشاعر الإنسانية مثل الخوف والشر والانتقام. لذلك ستظل مُحلقة فوق الإكراهات البشرية كافة ومتألهة عليها.

لا تزال سيرة ريتشارد راميرز تؤرق ملايين الأمريكيين على رغم موته وحيداً من السرطان بجسد ذابل في زنزانته، لكن لا أحد يتذكر ذلك، الجميع تذكر رجلاً فانياً ربط كينونته بالشيطان، وأعلن أنه سيُجاوز بفكرته قفص مُحاكمته. وهذا يجعله خالداً خلود الشيطان كفكرة عصية على الحصر والإحاطة والتجسد.

وهذا ما جعل الدقائق الـ16 لهانيبال أكثر تأثيراً من كل أبطال الفيلم ليحصد به هوبكنز الأوسكار الأول له ويخلق الفيلم Cinematic Cult أو افتتان طائفي معقد بشخصيته السينمائية الشيطانية التي أسرت المُعجبين من زنزانتها.

ولكن ماذا لو دعونا الشيطان لمُحادثة مُطولة، لرحلة أكثر تفصيلاً من كادر مُحاكمته وأكثر سعة من مُحيط زنزانته؟

الشيطان في دراما مُطولة

«سنرى هانيبال خارج زنزانته، مُرتدياً حُلة أنيقة، منغمساً في عالمه، علينا فقط أن نجد رجلاً يُشبه جنون الشخصية ومخلصاً لها، ولا يُشبه أنثوني هوبكنز في شيء».

— Bryan Fuller 

في عام 2013 سيقوم السيناريست والمُنتج الأمريكي بريان فولر بتسويق فكرة تلفزيونية لشبكة NBC، قوامها سؤال بسيط:-

ماذا لو امتلكنا رفاهية السرد لأكثر من 36 ساعة مُتصلة، يُمكن خلالها أن نفهم هانيبال على حقيقته، ونراه شيئاً أكثر عمقاً من بُعبع قاتل Boogeyman يثير الرعب من زنزانته؟

بدأ هذا السؤال معارك فنية استنزافية مع NBC التي اشترطت على «فولر» أن يُستعاد هانيبال عبر نجوم يُشبهون هوبكنز، يحملون مزيجاً من الوسامة والجنون والشر الأرستقراطي، مثل «جون كوزاك» و«هيو غرانت». وهو ما رآه فولر اجتراراً مُفلساً لنسخة جديدة من هانيبال صمت الحملان.

أصر بريان فولر على مُمثل دانماركي أقل شهرة بكثير يُدعى مادس ميكلسن، يحمل لكنة ثقيلة تخرج معها إنجليزية غرائبية، يُعززها صوته العميق، وملامحه المُربعة التي لا تتسق مع معايير الوسامة الأمريكية.

بدا ميكلسن لمنتجي الشبكة مثل وحش أوروبي من الفايكنج يتظاهر بكونه أمريكياً، وعندما رفضه الاستوديو لهذا السبب، أكد فولر أن هانيبال هو وحش يرتدي حُلة بشرية، لذلك تظاهر ميكلسن المُصطنع بأمريكيته سيُناسب شخصية تتظاهر ببشريتها، خاصة عندما نُسجل جوانب حياتها في قلب مجتمعها وخارج جدران السجن. كما أن خلفية ميكلسن الأوروبية تُناسب أصول شخصية هانيبال ليكتر في أدب توماس هاريس التي تحمل أصولاً ليتوانية أوروبية.

مشهد من مسلسل «Hannibal»

بعد تجارب أداء مروعة قدم فيها ممثلون أداءات شتى تقلد هوبكنز بدلاً من أن تقدم جديداً لشخصية هانيبال، قدم الأستوديو موافقة حذرة على ميكلسن، ليبدأ فولر المُسلسل الذي حقق في ثلاثة مواسم قصيرة، ظاهرة ستعرف في أوساط المُعجبين بـAnnibalsF أو مُعجبون من نوع خاص بمسلسل قوطي وسريالي نقل جونرة القتلة المتسلسلين إلى آفاق مروعة ومغلفة بجمالية يراها كثيرون مُثيرة للاشمئزاز والقشعريرة.

تقول ناقدة الجارديان Sian Cain:

نحصل على لحظات تلفزيونية يُقدم فيها هانيبال لرجل أبتر، ساقه المحلاة والمرصعة بأسياخ قصب السكر كوجبة عشاء. نرى عمود طوطم مصنوعاً من الجثث، جسداً بشرياً على شكل تعريشة حديقة بينما تُستبدل أعضاؤه بالزهور، يتمنى البعض موسماً جديداً لهانيبال، لكن بالأحرى يجب أن نسأل كيف نجح هذا المسلسل أن يستمر لأكثر من ثلاثة مواسم من الأساس؟ ولماذا امتلك هذا السحر؟

الطعام كخطيئة إنسانية

«-سيد هانيبال، الكانيباليزم أو أكل لحوم البشر مُتعارف عليه منذ بدء نسلنا البشري، نحن نأكل بعضنا منذ بدء الخليقة

 -ما أفعله ليس كانيباليزم، إنه يسمى كذلك لو كان بين أقران متساوين، أنا لا أتساوى مع من آكلهم»

— Hannibal Series

يمتلك المطبخ الفرنسي أكلة فريدة هي طبق طائر الأورتولان، طائر بحجم راحة اليد يتم صيده خلال هجرته من غرب أوروبا لأفريقيا، ثم إطعامه في ظلام دامس لشهور حتى يمتلئ جسده بالدهون وهو يستمتع بعش آمن مثل الرحم الدافئ على رغم ظلامه، بعد تسمينه يُنقع الطائر حياً في وعاء من براندي أرمناك، ليصل لمحطته الأخيرة وهي قليه أخيراً في زيت مغلي ثم تقديمه مع النبيذ.

ما يثير التأمل في طبق الأورتولان ليس طريقة صنعه إنما طقس تقديمه، يؤكل الأورتولان في قضمة واحدة، بعظامه ورأسه، لا يُلفظ منه شيء، لكن قبل قضمه يُغطي الإنسان رأسه بغطاء.

تعود غرابة الطقس إلى فكرة الخزي الأنثروبولوجي المُرتبط بالطعام، لتحيا عليك أن تأكل، وأحياناً تكون فريستك طائراً جميل الشكل، قوطعت هجرته، وتحولت فكرة الطعام والأمان في رحم مُظلم إلى تمهيد ماكر لقتله. لذلك على آكله أن يختبئ من نظر الله خلال تلذذه بطعمه.

في إحدى حلقات «هانيبال» يتناول ليكتر الأورتولان وهو يُخبر ضيفه بطقوس أكله لكنه يضع الغطاء القماشي جانباً، ويزدرد الطائر في قضمة واحدة قائلاً:

عليك أن تغطي رأسك خلال الأكل، لكنني لا أفعل، أنا لا أختبئ من نظر الله!

مادس ميكلسن من مشهد في مسلسل «Hannibal»

يمثل ذلك المشهد مجازاً كاملاً عن فلسفة الطعام أو الكانيباليزم التي يتبعها هانيبال، تقول مصممة الطعام «جانيس بون» التي تولت تصميم وصفات الطعام المروعة التي قدمها هانيبال لضيوفه، الذي يؤكد دوماً قبل بدء الوليمة ألا شيء فيها نباتي:-

الخضروات ملونة وزاهية ومختلفة، بينما اللحم من كل الحيوانات واحد، درجات من الوردي والبني، حتى لحومنا نحن، استهلاك اللحوم يُخبرنا أننا جزء من مملكة الحيوان، فقط امتلكنا القوة لاعتلاء قمة الهرم الغذائي ووضع كل من أسفلنا في قائمة الطعام.

لا يرى هانيبال نفسه كائناً مُميزاً نجح في اعتلاء قمة الهرم الغذائي وحسب، مما يُحرره من الخزي الأنثروبولوجي، إنما يُحرر نفسه كذلك من الخزي الديني المُرتبط بالطعام في التراث الإبراهيمي بقصة سقوط البشر إلى الأرض عندما ارتكب آدم الخطيئة وهي الأكل من الشجرة. ووسيلته لتحرير ذاته من الفكرتين هي أنها أفكار تخص البشر وهو فوق بشري!

يرى هانيبال أن التابوه أو تحريم أكل لحوم البشر، ينبع من أننا نأكل أشباهنا، مما يثير مخاوفنا من أن نؤكل في المُقابل، وهو تحريم تنهار حجته لو رأى الشخص نفسه غير مؤنسن بالأساس.

يُعادل هانيبال نفسه بالإله، وبينما تجرأ آدم على أن يأكل من الشجرة بحثاً عن الخلود -وهي صفة إلهية بالأساس لا تحتملها بشريته- مما استدعى أن يستر عورته ويتوب طلباً للغفران، يأكل هانيبال البشر بحثاً عن صفة إلهية موازية وهي الهيمنة. ولا يستر عورته أو يطلب الغفران إنما ينظر إلى الرب ويُخبره بجرأة أنه يُحاكيه لا أكثر. ولا خزي في ذلك.

الشيطان يعرض مرافعته على مائدة طعام

« - أي إله تصلي له؟

- لا أصلي لإله ولا أهتم سوى بمقارنة أفعالي بأفعال الرب، عندما أعقد المقارنة أجد أفعالي شاحبة جداً نسبة لأفعاله، بالأمس أسقط الرب سقف كنيسة على 34 متعبداً في تكساس كانوا يترنمون له، لا مثيل للرب في السخرية القدرية والمكر الموجه»

— Hannibal Series

يرى هانيبال أن الرب يقوم بوصال مخلوقاته بالرحمة والجبروت معاً، يمكن أن تستقبل من السماء مُباركاته وكذلك لعناته، لذلك في محادثة بالمسلسل يستدعي هانيبال أكثر صورة تُناسب تصوره عن الألوهية وهي الإله الهندوسي «شيفا» الذي يخلق ويُدمر في آن، وهو الإله نفسه الذي استدعاه أوبنهايمر عندما رأى انفجار القنبلة الذرية لأول مرة في اختبار ترينيتي، ليصف نفسه كمُعادل للإله في جبروته ويقول إنه الموت مُدمر العالم.

مشهد من المسلسل

بينما يُمكن للرب أن يبارك ميلاد طفل وفي اللحظة نفسها يُسقط سقف كنيسة بلا اكتراث عن مُترنمين ينزهونه ويباركون مجده. يحاكي هانيبال تلك الكوميديا الإلهية من منظوره عندما يختار فعل العصيان الأمثل وهو الأكل، والمفارقة التي وضعها الرب في فعل الطعام وهو رهن بقائنا بارتكابنا القتل تجاه مخلوقات أخرى، ليكون فعله الذي يعبر به عن ألوهته.

يمتلك هانيبال كوداً أخلاقياً يسمى Eat The Rude فهو يقوم بأكل الوقحين والمزعجين، من منظوره، يمتلك عجلة بطاقات لوصفات الطعام تجاورها أسماء ضحاياه ليظهروا مثل خنازير في انتظار الذبح.

ولكن في أحيان أخرى يكون الأكل هو تعبيره عن الحُب، أول مرة جرب فيها أكل لحوم البشر، كانت عندما أكل لحم جثة أخته ميشا التي قتلها مجرم، وكانت تلك طريقته الوحيدة لاستبقاء ذكراها بداخله. يستخدم هانيبال فعلاً واحداً ليكون طقس عذاب وطقس رحمة في آن كما يُقدم الرب أفعاله كافة للخلق وهي تحتمل السمتين معاً.

لذلك لا يرى هانيبال فعل الكانيباليزم فعلاً وحشياً لأنه ليس إنساناً ليأكل أشباهه، ولا فعل عصيان لأنه ليس خاضعاً للرب إنما من منظوره هو مُحاك له ومرآة تكشف ألاعيبه، وهذا يجعل هانيبال نُسخة فلسفية عن لوسيفر أو الشيطان. الكيان الذي تجرأ على تحدي منطق الرب وبيان تناقضاته.

عندما سأل براين فولر الممثل مادس ميكلسن عن الطريقة التي سيؤدي بها هانيبال، أخبره مادس:-

نحن نتحدث عن شيطان ميثولوجي.

عندها تأكد فولر أن ممثله وجد الزاوية المثالية لفهم الشخصية، وفي أحد المشاهد التي يقوم فيها هانيبال بشرح جحيم دانتي ولوسيفر، تتماهى الصورة ليكتسي هانيبال بملامح لوسيفر ذاته.

مشهد آخر من المسلسل

نتوقع عند ظهور لوسيفر في دراما تلفزيونية، مُجادلات لاهوتية على طريقة شكسبير، أو رحلة ما ورائية إلى الجحيم على طريقة دانتي، لكن يستخدم مسلسل هانيبال الطعام مجازاً عن تلك المحاورة وتعقيدها، يقول هانيبال:-

«التذوق والشم هما الحاستان الأقرب إلى مركز المخ، هما الأجزاء التي تسبق الشفقة والفضيلة، إنها تلهو في قمة جمجمتنا مثل رسوم على سقف كنيسة، المراسم والمشاهد وتبادلات العشاء قد تكون ممتعة أكثر من مشاهدة المسرح والكنيسة»

لذلك اجتهدت المُصممة «جانيس بون» في صنع موائد طعام جماليتها مروعة، يبدو الطعام لذيذاً بما يكفي ليخدع ضيوف هانيبال، لكن جماليته كابوسية لتثير قشعريرة المشاهدين، لأنهم يُدركون أنه كل قائمة الطعام ما هي سوى لحم بشري.

مشهد من نفس المسلسل

لذلك يحاكي الطعام في صورته أفعالاً بشرية مثل لحم ضأن ملفوف مع عظام أضلاعه على شكل يد تتضرع للصلاة، أو حلزونات تشبه العيون، ريشات نيص تزين الطعام لكنها تشبه متاهة حقيقية، نحن نرى الطعام كما يراه هانيبال، مشروعاً جمالياً للسخرية من الرب، والبشر فيه أدوات لصنع دعابة جيدة ومُحاكاة.

الشيطان يحتاج إلى صديق

« - ماذا يُمثل لك، ويل غراهام؟

- فرصة للصداقة!»

— Hannibal Series

في دراما مثل تلك بين شيطان مؤنسن يُحاكي قسوة الرب وجبروته وإله صامت، نجد البشر مجرد أدوات في محادثة لاهوتية، ليسوا سوى الديكور الذي يتمظهر عبره الرب بجبروته، ويتمظهر عبره هانيبال بالسمة ذاتها.

هنا يأتي النصف الآخر من الحكاية أو «ويل جراهام»، فالبشر ليسوا ضحايا لجبروت آلهة وشياطين، إنما هم كذلك شهود عليهم، يمنحون كل مأساة ما تحتاجه، متفرجين يشهدون ملحميتها.

في ميثولوجيا «بريان فولر» كل إله يُحب أن يُرى، وكل شيطان ينجذب للبشرية بافتتان لأنهم ساحة استعراض مواهبه ومادة مرافعته ليثبت لهم أنهم جنس شديد الهشاشة ليتسيد الدراما الإلهية بدلاً منه.

يُمكن للرب أن يُسقط سقف كنيسة على عابدين ليشهدوا جبروته، ويُمكن لهانيبال أن يصنع وليمة من اللحم البشري ليموضع نفسه على قمة الهرم الغذائي، كشيطان يتغذى على أسياد هذا الهرم البيولوجي أو البشر.

يبدو هانيبال منيعاً وصامداً في تلك المحاكاة لكنه يمتلك جانب هشاشة واحد، وهو أنه ليس مستغنياً بما يكفي مثل الآلهة عن المتفرجين، هو يحتاج شاهداً لحكايته، لا يراه في حلته البشرية المخادعة، إنما يشهد جبروته، ويوثق رحلته، وهنا كان احتياج الشيطان لصديق أو ويل غراهام، وكان اختبار هانيبال الهش لنفسه كإله، لكنه إله يشعر بالوحدة!

إنسان مفرط في إنسانيته

«عاطفتي تجاهك غير مُناسبة ويل، مثل عاطفة حُب من جزار تجاه إحدى أبقاره، لقد جعلتك تراني، لكنك لم تُقدر تلك الهبة أبداً»

— Hannibal Series

تدور حبكة مسلسل «هانيبال» حول المُحلل السيكولوجي «ويل غراهام» الذي يمتلك ما يُسمى «تقمصاً عاطفياً نقياً»، قدرة على المواجدة والشعور بالآخر حتى لو كان قاتلاً مروعاً وهذا ما يجعله ماهراً في تقمص القتلة والتنبؤ بخطواتهم وصولاً للإمساك بهم.

بينما ينفصل هانيبال عن بشريته بما يكفي ليتأله بأحكامه على البشر فيصير الوقحون في نظره طبقاً مفضلاً على عشائه، يتصل ويل غراهام بالبشر بما يكفي ليتألم لآلامهم ويسكن الروع أوصاله من أفعالهم. تكمن هوية هانيبال في انفصاله النفسي عن بني جنسه، وتكمن مأساة ويل في وصاله المفرط لهم أو بتعبير نيتشه «إنسان مفرط في إنسانيته».

لذلك تقرر المباحث الفيدرالية تعيين هانيبال ليكتر طبيباً نفسياً مسئولاً عن استقرار حالة ويل غراهام خلال تتبعه للقتلة، خوفاً من تعرضه لانهيار عاطفي أو إرهاق نفسي أثناء أداء مهامه.

مشهد من مسلسل «Hannibal»

من خلال مهامه كطبيب نفسي أو أب اعتراف حداثي، يمتلك هانيبال القدرة على تقمص فكرة الوسواس الديني بأقصى إمكاناتها، ليحرر عبر جلساته النفسية ويل من كل كوابحه وآليات دفاعه النفسية، ليدفعه نحو تقمص كامل لكينونة هانيبال المعقدة، يقترب هانيبال بما يكفي من ويل، معرياً قناعه البشري، مُضحياً بانكشاف هويته كقاتل، ليراه ويل على حقيقته.

يظهر هانيبال في أحلام ويل بصورة كيان أسود له قرون، وهي صورة ميثولوجية مستدعاة من أسطورة الوينديجو Wendigo التي يعتنقها السكان الأصليون في أمريكا الشمالية، حول روح شريرة تتملك الأفراد وتغرس فيهم شرهاً للحم البشري، ما يثير الاهتمام في الأسطورة هو تحذيرها أن ظهور الوينديجو وصحبته، تُحول رفيقه بالتدريج إلى وحش مثله.

هيو دانسي من مسلسل «Hannibal»

وهو مقصد هانيبال النهائي، أن يراه ويل أولاً على حقيقته فيكسر بذلك أسوار وحدته ويمنحه راحة من قناعه البشري المُتحضر، وأن يصير مثله ثانياً، ولو صار ويل وحشاً، لن يجد أنيساً سوى بصحبة وحش شبيه، وهذا يجعل رفقته لهانيبال مصيراً نهائياً وأبدياً.

جمالية علاقة ويل وهانيبال تجاوز الهوس الجمالي لدى الشيطان بإفساد البراءة الإنسانية، يحتاج هانيبال لكي يراه ويل في صورته الكاملة، أن يُخلص صديقه البشري من كل كوابحه الأخلاقية، وهي المهمة التي تصدى لها نيتشه في الفلسفة، تخليص البشر من بناءات الخير والشر الأخلاقية، التي تفترض وجود حقيقة يمكن أن نصل لها، بينما في حقيقة الأمر لا توجد حقيقة إنما تأويلات يفرضها الأقوى.

في خضم محاولة هانيبال لتحرير ويل من برمجته الاجتماعية والأخلاقية كان عليه أن يحوله إلى أوبرمانش أو إنسان أعلى على طريقة نيتشه. وهذا ما منح المسلسل طابعه الغرائبي كقصة حب بين جزار وإحدى أبقاره، بين شيطان يبحث عن صديق، وإله يبحث عن مرآة تتحمل رعب تجليه عليها.

يمتلك مسلسل هانيبال جاذبيته الخطرة، في تقديمه للقتلة المتسلسلين، ليس كمنحرفين تقليديين، إنما كبشر امتلكوا الشجاعة للتحرر من نسقهم القيمي، وبسقوط هذا النسق تصير كل التابوهات مُتاحة، البعض يغتصب ويقتل على طريقة تيد باندي، البعض يأكل ضحاياه كفعل حب لاستبقائهم على طريقة جيفري دامر، والبعض يمارس تلك الأفعال ليخلق محادثة ومحاسبة للإله بمحاكاته بكل تناقضاته على طريقة هانيبال.

يتحول صراع المسلسل إلى مقاومة مستميتة من شخصية ويل غراهام، الذي تمثل طبيعته ما تستهدفه أي دراما من المتلقي لها، قدرتنا على رؤية حكاية تلفزيونية أبطالها مروعون والتعاطف مع منطقهم وتقمصه عاطفياً بالكامل على رغم إدانتنا الأخلاقية له، يقاوم ويل غراهام محاولات تحريره من كوده الأخلاقي وتابوهاته ودفعه لهوة المُشابهة مع الوحش الذي لا يكف عن ندائه.

يقتل هانيبال أحباء ويل تباعاً، ويترك جرحاً على شكل ابتسامة على جسده عندما يرفض الهرب معه لمصير يجمعهما معاً، يفر هانيبال وحده بكبرياء جريح بعد أن كشف حقيقته لويل ورفض الأخير قبولها، ولكن يظل ويل يتتبع أثره، قائلاً:

لم أعرف ذاتي أبداً، مثلما عرفتها بالقرب من هانيبال

يعرف المحقق والعدو التقليدي لهانيبال لكتر أن ويل قام بتحذير هانيبال في اللحظة الأخيرة من قدوم الشرطة إليه، يعترف ويل:-
جزء مني أراد أن ينجو، جزء مني أراد الهرب معه

في الكوميديا الإلهية يقدم دانتي شخصية الشاعر فرجيل، كمرشد له يقوده عبر الجحيم إلى الفردوس، يقدم هانيبال ذاته لنا في ميثولوجيا بريان فولر، كمرشد لكنه لا يقودنا إلى الفردوس إنما يقودنا إلى ذات تكمن بداخلنا، مُحررة من أخلاقياتها ومخاوفها وتابوهاتها، ذات تحيا بحرية كاملة بقدر ما يحمله ذلك من روع وانعتاق.

لذلك تبدو جاذبية هانيبال مُثقلة لشخصية ويل غراهام ولكل المُتلقين، لأنه يقدم بعبارته الشهيرة لويل غراهام، السؤال الذي نخاف أن نسأله دوماً عندما نرى القتلة المُتسلسلين:

هل يجب أن أشجب نفسي كوحش بينما لا تزال ترفض أنت رؤية الوحش الذي ينضج بداخلك؟

لتصير مشاهدة هانيبال تنويعاً عن فكرة التحديق في الهاوية التي حذر منها نيتشه، لأن الهاوية التي ننظر لها تبادلنا النظر، والوحوش الذين نعافهم كثيراً ما نمتلك رغبة دفينة في أن نكون مثلهم.

جرعة معتدلة من الجنون

«الجنون قد يشكل دواء للعالم الحديث، إذا تعاطيته بجرعات معتدلة يصير نافعاً، الآثار الجانبية لذلك مؤقتة غير ذلك يمكن للجنون أن يعزز جهاز المناعة النفسي ليساعدنا على تخطي محن الحياة اليومية».

— Hannibal Series

يقول بريان فولر إن كل ما تمناه من المسلسل أن يُوثق جوهر تلك العلاقة القاتلة في جاذبيتها، بين إله/شيطان/إنسان أعلى/فيلسوف مثل هانيبال، وبشري عادي يثير فضول الآلهة بدلاً من احتقارها مثل ويل غراهام.

تبعاً لفولر، نجحت أفلام هانيبال في تقديم دراما تشويقية Thriller خلابة لكنها لم توثق جاذبية تلك العلاقة، في روايات توماس هاريس مثلاً، تتورط كلاريس ستارلينج في علاقة عاطفية مع هانيبال ليكتر، ويتحول رابط هانيبال وويل غراهام إلى حب حميمي، ليس مثلياً بتبسيط الأمر، لأن بتعبيره الشيطان فكرة تجاوز تقييدات الجندر وتعريفاته، إنما فضول جمالي للحميمية بين كيان أعلى وعين تمنحه الشهود.

يمثل Hannibal في صورة الدراما التلفزيونية، أكثر المحاولات جنوناً وإبداعاً للتعاطي مع جونرة القتلة المُتسلسلين ليس باعتبارهم كيانات مفارقة أو انحرافات تراجيدية عن الفطرة الإنسانية، إنما مرآة تحمل بعضاً من أشواقنا المحرمة لتجربة الحياة من دون تابوه، أشواق يصعب الاعتراف بها ولكن يسهل رؤية أثرها في توجيه افتتاننا المخيف بتلك الفكرة للافتتان بمسلسل عن قاتل مؤله يقود بشرياً يشبهنا في رحلة تشبه جحيم دانتي لعالم يحقق فيه ممكناته كاملة من دون قيود.

يقول بريان فولر إن ترامب ظهر من إحباطات أفراد تجاه سياسات تبدو متحضرة لكنها ليست كذلك، لكنه فوجئ بنفسه يستدعي هانيبال في خياله للتخلص من ترامب بعبارته الشهيرة:

اللحم عاد لقائمة الطعام

يحضر هانيبال معبراً عن أشد رغباتنا ظلاماً، في أشد صورها بدائية وهي أن تأكل الآخر، وتفترس من تكرهه، دون عواقب، لذلك تبدو الشخصيات الجنونية في الدراما مدخلاً مناسباً لتفريغ تلك العواطف واختبارها، جرعة معتدلة من الجنون من دون آثار جانبية، لأن تفريغ هذا الجنون في الواقع قد يؤدي لانتخاب ساسة مروعين وخلق آثار جانبية لا تزول.

في أحد المشاهد تُلخص الطبيبة النفسية دي موريير، مريضها هانيبال وتقول:

أنت لم تعد تملك اهتمامات أخلاقية….. فقط جمالية

يصل هانيبال إلى ما توصل له نيتشه وقبله معلمه شوبنهاور في منتهى فلسفته، بسقوط البنى الأخلاقية التي تؤطر ما يقيدنا وترشدنا كذلك لما يجب أن نفعله، لا تتبقى سوى اهتمامات جمالية، يتساوى فيها استماعك لمعزوفة شوبان، بانشغال هانيبال بتزيين وزخرفة طبق تتوسطه ساق بشرية. يتركنا هانيبال والدراما خاصته بجمالية مسكرة نواجهها بالاعتراف أو الاشمئزاز أو القشعريرة. نوقن أن هانيبال سعيد في منفاه أو زنزانته أو قبره، بينما نحن مؤرقون بأسئلتنا الأخلاقية حول الشيطان الذي أرشدنا لوجوده بداخلنا.

# سينما عالمية # فن # سينما

فيلم Joker: Folie à Deux: حكاية تقلع بلا أجنحة
فيلم «المخدوعون»: فلسطين في مواجهة الرجال والشمس
فيكتور إيريس: العالم بقدم في الواقع وأخرى في الأحلام

فن